فصل: قال في روح البيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

المَنُّ: ذكر النعمة على معنى التعديد لها والتقريع بها؛ مثل أن يقول: قد أحسنت إليك ونَعْشْتُك وشبهه.
وقال بعضهم: المنّ: التحدّث بما أَعطى حتى يبلغ ذلك المعطَى فيؤذيه.
والمنّ من الكبائر، ثبت ذلك في صحيح مسلم وغيره، وأنه أحد الثلاثة الذين لا ينظر الله إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم؛ وروى النسائيّ عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة العاقّ لوالديه والمرأة المترجِّلة تتشبّه بالرجال والديُّوث، وثلاثة لا يدخلون الجنة العاقّ لوالديه والمدمِن الخمر والمنّان بما أعطى» وفي بعض طرق مسلم: «المنان هو الذي لا يعطي شيئًا إلا مِنّة» والأذى: السب والتشكّي، وهو أعمّ من المنّ؛ لأن المنّ جزء من الأذى لكنه نص عليه لكثرة وُقُوعِه. وقال ابن زيد: لئن ظننت أن سلامك يثقل على من أنفقت عليه تريد وجه الله فلا تسلم عليه.
وقالت له امرأة: يا أبا أُسامة دلني على رجل يخرج في سبيل الله حقًا فإنهم إنما يخرجون يأكلون الفواكه فإن عندي أسهمًا وجعبة. فقال: لا بارك الله في أسهمك وجعبتك فقد آذيتهم قبل أن تعطيهم.
قال علماؤنا رحمة الله عليهم: فمن أنفق في سبيل الله ولم يُتبعه مَنّا ولا أذًى كقوله: ما أشدّ إلحاحَك! وخلّصنا الله منك! وأمثال هذا فقد تضمّن الله له بالأجر، والأجر الجنة، ونفى عنه الخوف بعد موته لما يستقبل، والحزن على ما سلف من دنياه؛ لأنه يغتبط بآخرته فقال: {لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}.
وكفى بهذا فضلًا وشرفًا للنفقة في سبيل الله تعالى.
وفيها دلالة لمن فضّل الغنيّ على الفقر. اهـ.

.قال الفخر:

قالت المعتزلة: الآية دالة على أن الكبائر تحبط ثواب فاعلها، وذلك لأنه تعالى بيّن أن هذا الثواب إنما يبقى إذا لم يوجد المن والأذى، لأنه لو ثبت مع فقدهما ومع وجودهما لم يكن لهذا الاشتراط فائدة.
أجاب أصحابنا بأن المراد من الآية أن حصول المن والأذى يخرجان الإنفاق من أن يكون فيه أجر وثواب أصلًا، من حيث يدلان على أنه إنما أنفق لكي يمن، ولم ينفق لطلب رضوان الله، ولا على وجه القربة والعبادة، فلا جرم بطل الأجر، طعن القاضي في هذا الجواب فقال: إنه تعالى بيّن أن هذا الإنفاق قد صح، ولذلك قال: {ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُواْ} وكلمة {ثُمَّ} للتراخي، وما يكون متأخرًا عن الإنفاق موجب للثواب، لأن شرط المتأثر يجب أن يكون حاصلًا حال حصول المؤثر لا بعده.
أجاب أصحابنا عنه من وجوه:
الأول: أن ذكر المن والأذى وإن كان متأخرًا عن الإنفاق، إلا أن هذا الذكر المتأخر يدل ظاهرًا على أنه حين أنفق ما كان إنفاقه لوجه الله، بل لأجل الترفع على الناس وطلب الرياء والسمعة، ومتى كان الأمر كذلك كان إنفاقه غير موجب للثواب.
والثاني: هب أن هذا الشرط متأخر، ولكن لم يجوز أن يقال: إن تأثير المؤثر يتوقف على أن لا يوجد بعده ما يضاده على ما هو مذهب أصحاب الموافاة، وتقريره معلوم في علم الكلام. اهـ.

.قال أبو حيان:

و: ما، من {ما أنفقوا} موصول عائده محذوف، أي: أنفقوه، ويجوز أن تكون مصدرية، أي: إنفاقهم، وثم محذوف، أي: منًّا على المنفق عليه، ولا أذى له، وبعد ما قاله بعضهم من أن ولا أذى من صفة المعطي، وهو مستأنف، وكأنه قال: الذين ينفقون ولا يمنون ولا يتأذون بالإنفاق، وكذلك يبعد ما قاله بعضهم من أن قوله: {ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} لا يراد به في الآخرة، وأن المعنى: إن حق المنفق في سبيل الله أن يطيب به نفسه، وأن لا يعقبه المن، وأن لا يشفق من فقر يناله من بعد، بل يثق بكفاية الله ولا يحزن إن ناله فقر. اهـ.

.قال الفخر:

الآية دلت أن المن والأذى من الكبائر، حيث تخرج هذه الطاعة العظيمة بسبب كل واحد منهما عن أن تفيد ذلك الثواب الجزيل. اهـ.
وقال الفخر:
أما قوله: {لَهُمْ أَجْرُهُمْ} ففيه مسائل:
المسألة الأولى: هل العمل يوجب الأجر على الله؟
احتجت المعتزلة بهذه الآية على أن العمل يوجب الأجر على الله تعالى، وأصحابنا يقولون: حصول الأجر بسبب الوعد لا بسبب نفس العمل لأن العمل واجب على العبد وأداء الواجب لا يوجب الأجر.
المسألة الثانية: نفي الإحباط بحصول الأجر المطلق:
احتج أصحابنا بهذه الآية على نفي الإحباط، وذلك لأنها تدل على أن الأجر حاصل لهم على الإطلاق، فوجب أن يكون الأجر حاصلًا لهم بعد فعل الكبائر، وذلك يبطل القول بالإحباط.
المسألة الثالثة: الأجر عند الله مشروط بعدم الكفر:
أجمعت الأمة على أن قوله: {لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ} مشروط بأن لا يوجد منه الكفر، وذلك يدل على أنه يجوز التكلم بالعام لإرادة الخاص، ومتى جاز ذلك في الجملة لم تكن دلالة اللفظ العام على الاستغراق دلالة قطعية، وذلك يوجب سقوط دلائل المعتزلة في التمسك بالعمومات على القطع بالوعيد. اهـ.
وقال الفخر:
أما قوله: {وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} ففيه قولان الأول: أن إنفاقهم في سبيل الله لا يضيع، بل ثوابه موفر عليهم يوم القيامة، لا يخافون من أن لا يوجد، ولا يحزنون بسبب أن لا يوجد، وهو كقوله تعالى: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْمًا وَلاَ هَضْمًا} [طه: 112] والثاني: أن يكون المراد أنهم يوم القيامة لا يخافون العذاب ألبتة، كما قال: {وَهُمْ مّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} [النمل: 89] وقال: {لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر} [الأنبياء: 103]. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} في الدارين من لحوق مكروهٍ من المكاره {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} لفوات مطلوبٍ من المطالب قلَّ أو جلَّ، أي لا يعتريهم ما يوجبه لا أنه يعتريهم ذلك لكنهم لا يخافون ولا يحزنون ولا أنه لا يعتريهم خوفٌ وحزن أصلًا بل يستمرون على النشاط والسرور، كيف لا واستشعارُ الخوف والخشية استعظامًا لجلال الله وهيبته واستقصارًا للجِد والسعي في إقامة حقوقِ العبودية من خواصِّ الخاصةِ والمقرَّبين، والمرادُ بيانُ دوامِ انتفائِهما لا بيانُ انتفاءِ دوامِهما كما يوهمه كونُ الخبر في الجملة الثانية مضارعًا عالمًا أن النفي وإن دخل على نفس المضارع يفيدُ الدوام والاستمرار بحسب المقام. اهـ.

.أسئلة وأجوبة:

.سؤال: فإن قيل: كيف مدحهم بترك المن، ووصف نفسه بالمنان؟

فالجواب: أنه يقال: منّ فلان على فلان: إذا أنعم عليه، فهذا الممدوح، قال الشاعر:
فمنِّي علينا بالسلام فإنما ** كلامك ياقوت ودر منظم

أراد بالمن: الإنعام.
وأما الوجه المذموم، فهو أن يقال: منّ فلان على فلان: إذا استعظم ما أعطاه، وافتخر بذلك، قال الشاعر في ذلك:
أنلت قليلًا ثم أسرعت منَّة ** فنيلك ممنون كذاك قليل

ذكر ذلك أبو بكر الأنباري. اهـ.
وقال الخازن: المنان في صفة الله تعالى معناه المتفضل فمن الله إفضال على عباده وإحسانه إليهم فجميع ما هم فيه منة منه سبحانه وتعالى ومن العباد تعيير وتكدير فظهر الفرق بينهما. اهـ.

.سؤال: فإن قلت: أي فرق بين قوله: {لَهُمْ أَجْرُهُمْ} وقوله فيما بعد: {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ}؟

قلت: الموصول لم يضمن هاهنا معنى الشرط. وضمنه ثمة. والفرق بينهما من جهة المعنى أنّ الفاء فيها دلالة على أنّ الإنفاق به استحق الأجر، وطرحها عار عن تلك الدلالة. اهـ.
قال البيضاوي:
لعله لم يدخل الفاء فيه وقد تضمن ما أسند إليه معنى الشرط إيهامًا بأنهم أهل لذلك وإن لم يفعلوا فكيف بهم إذا فعلوا. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.قال في روح البيان:

اعلم أن الناس على ثلاث طبقات:
الأولى الأقوياء وهم الذين أنفقوا جميع ما ملكوا وهؤلاء صدقوا فيما عاهدوا الله عليه من الحب كما فعل أبو بكر الصديق رضى الله تعالى عنه.
والثانية المتوسطون وهم الذين لم يقدروا على إخلاء اليد عن المال دفعة ولكن أمسكوه لا للتنعم بل للإنفاق عند ظهور محتاج إليه وقنعوا في حق أنفسهم بما يقويهم على العبادة.
والثالثة الضعفاء وهم المقتصرون على أداء الزكاة الواجبة اللهم اجعلنا من المتجردين عن عيرك والقانعين بك عما سواك. اهـ.

.من فوائد ابن عرفة في الآية:

قوله تعالى: {الذين يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله}.
قال ابن عرفة: أتى به غير معطوف لأنه في معنى التفسير للأول فعلى هذا يكون خبر مبتدإ مقدر، أي هم الذين ينفقون أموالهم.
قوله تعالى: {ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ}.
عطفه بثم إما لبعد ما بين المنزلتين أو للمهلة حقيقة ويكون فيه إشارة إلى أنهم يمنون بنفقة طال أمدها وداموا عليها فأحرى أن لا يَمُنُّوا بنفس الإنفاق.
قوله تعالى: {مَنًّا وَلاَ أَذىً}.
قال ابن عرفة: قالوا الأذى هو الشكوى بذلك والسب عليه.
ابن عرفة: وتقدم لنا سؤال وهو أنه لا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم بل العكس، فالمنّ أعم من الأذى فإذا لم يمنّوا فأحرى أن لا يسبّوا عليها.
وأجيب بأن الإنسان قد يشكو بإعطائه النفقة لغيره ويذم معه ولا يمن عليه لأنه إذا رآه يستحيي منه فلا يمن عليه.
فقال: المن على المعطي يكون بمحضره وفي غيبته.
قال: وإنما عادتهم يجيبون بأن سبب المن أخف من سبب الأذى، فإنهم اعتبروا الفاعل ونحن نعتبر المفعول.
فنقول: سبب المن مجرد بذل المال للفقير فقط، وأما الأذية والتشكي والسب فما يصدر إلا عن موجب وهو إذاية المعطي للفاعل ونحو ذلك.
فلا يلزم من نفي المنّ نفي الأذى.
قال: وقال هنا {لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ} وقال بعده {الذين يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بالليل والنهار سِرًّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ} فعطفه بالفاء.
وأجاب الزمخشري بأنّ الموصول لم يضمّن هنا معنى الشرط وضمنه هناك لأن الفاء تدل على أنّ الإنفاق به استحق الأجر.
قال ابن عرفة: هذا الكلام لا يستقل بنفسه، ولا يزال السؤال واردا، فيقال: لأي شيء أريد الشرط هناك ولم يرد هنا؟
قال: لكن عادتهم يجيبون بأنه لما قصد هناك الإخبار بأن مطلق الإنفاق في سبيل الله يلزمه الأجر قلّ أو كثر دخلت الفاء تحقيقا للارتباط، ولما كان المراد هنا إنفاقا خاصا على وجه شبيه بحسنة موصوفة بهذه الصفة وأكدت خصوصية سلامته من المن والأذى كان ترتيب الأجر عليه كالمعلوم بالبديهة وكالمستفاد من اللفظ فلم يحتج إلى ما يحقق الارتباط.
قوله تعالى: {لَّهُمْ أَجْرُهُمْ}.
أفادت الإضافة الاستحقاق أي أجرهم اللائق بهم فواحد يقل أجره وواحد يكثر وآخر في مادة التوسط بحسب عمله ونفقته. انتهى.
قوله تعالى: {وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ}.
قال: الخوف يتعلق بالمستقبل فالمناسب فيه أن يكون الفعل المقتضي للتجدد، والحزن يتعلق بالماضي فالمناسب أن يكون بالاسم المقتضي للثبوت والتحقيق. اهـ.